عنوان غريب استهويت قراءته الملايين حول العالم حيث قام البروفيسور مارتن شوارتز و هو أستاذ في قسم الأحياء الدقيقة في جامعة فرجينيا الأمريكية بنشر مقاله عام ٢٠٠٨ الذي يتحدث عن أهمية الغباء أثناء إجراء الأبحاث العلمية مؤكدا على أن بعض الطلاب الناجحين في الكليات أثناء سنوات الدراسة الجامعية أو الثانوية من الممكن أن يفشلون أثناء الالتحاق في برنامج الدراسات العليا سواء في مرحلة التحضير لبرنامج الماجستير أو الدكتوراه.
نبعت فكرة هذا المقال عندما التقى الدكتور شوارتز بزميلته التي كانت تدرس معه في مرحلة الدكتوراه و لكنها تركت الدراسة و لم تكمل البحث العلمي الذي بدأت به و بالتالي لم تحصل على درجة الدكتوراه، حيث أنها توجهت إلى دراسة القانون في جامعة هارفارد. سأل مارتن زميلته ماذا تعمل فأجابته بأنها تشغل منصب محامية في منظمة تهتم بالحفاظ على البيئة و الطبيعة و حين سألها عن سبب تركها للدكتوراه، كانت إجابتها بمثابة صدمة كبيرة لمارتن و هي بسبب شعورها بالغباء كلما أجرت تجربة علمية جديدة أو كلما قرأت أكثر، و هذا ما دفع مارتن إلى أن يفكر في المشاكل التي يواجهها بطريقة مغايرة عما قبل لأن زميلته كانت من ألمع الطلبة الذين عرفهم.
استطاع مارتن بالتوصل إلى فكرة أن الشعور بالغباء في بعض الأحيان ليس بالضرورة أمر سيء بل على العكس ممكن أن يكون عبارة عن غباء مثمر حيث أن هذا النوع من الغباء هو الذي يحفزنا إلى مواصلة البحث نحو المجهول وبالتالي نصبح أكثر تعمقا مع هذا المجهول و هذا من الممكن أن يؤدي إلى التوصل لاكتشافات علمية كبيرة.
بالنسبة لمارتن كان موضوع بحثه في مرحلة الدكتوراه متعدد التخصصات إلى حد ما و هذا ما كان يدفعه للتوجه و طرح أسئلة على المشرفين على بحثه العلمي و إحدى هؤلاء المشرفين هو البروفيسور هنري تاوب الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء سنة ١٩٨٣ لأبحاثه حول تفاعلات نقل الإلكترونات في المعقدات المعدنية. في مرة من المرات قال البروفسور تاوب لطالبه مارتن بأنه لم يجد حلا للمشكلة التي طرحها مارتن عليه حين كان مارتن في السنة الثالثة من الدكتوراه ! و هذا ما دفع مارتن إلى طرح عدة أسئلة على نفسه و منها كيف يمكنني أن أجد حلاً لمشكلة لم يستطع البروفيسور تاوب حلّها و هو صاحب الخبرة في هذا المجال و علمه و معرفته تفوق علمي و معرفتي بألاف المرات، اذا البروفيسور تاوب لم يستطع إيجاد حل فلن يتمكن أحد من فعل ذلك. و لكن نجح مارتن بعد مدة زمنية قصيرة نسبيا من الوصول إلى إجابات منطقية لأسئلته التي لم يتمكن مشرفه البروفيسور تاوب على حلها و حينها تعجب مارتن من العقل البشري الذي يقف عاجز عن أسئلة طرحها بنفسه ثم يقوم نفس العقل بالإجابة على هذه الأسئلة بعد التحليل و التفكير و التجارب و هذا ما دفع مارتن إلى القول بأن الغباء المبني على العلم هو أعلى درجات الذكاء، حيث أن هذا النوع من الغباء ناتج عن التعمق في فكرة معينة و بالتالي هو ذكاء من أجل البقاء و عدم الاستسلام حيث أن البحث العلمي هو عبارة عن استخدام المعلوم في الكشف عن المجهول حتى يصبح معلوما. و هنا أدرك مارتن السبب في ترك زميلته لبحثها في مرحلة الدكتوراه و أدرك أيضا أن ليس كل متفوق في الدراسة يصلح أن يكون باحثا.
و لذلك من يعتنق مجال البحث العلمي عليه ألا يخجل من جهله و عدم إلمامه بجميع الجوانب العلمية المتعلقة بمشروع بحثه بل على العكس عليه أن يفتخر بأن الفكرة التي توصل إليها مملوءة بالتحدي الذي يحتاج إلى المزيد من التجارب و الدراسات و الذي لا بد من نهاية المطاف أن يأتي بنتائج في أروع صورها، فكلما كانت الفكرة جديدة و إبداعية كلما كثرت الأسئلة العلمية التي غالبا لا تكون اجابتها حاضرة في الذهن و إنما تحتاج إلى المزيد من القراءة من أجل اكتشاف إجابات لهذه الأسئلة.
بناء على ما سبق، نستطيع القول بأنه على جميع المشرفين على البحوث العلمية تعليم طلابهم كيف يصبحوا أغبياء بإنتاجية لأن الشخص الذي لا يشعر بالغباء هو شخص لا يحاول، حيث أن معظم الطلاب لا يملكون أدنى فكرة عن مشقة القيام ببحث علمي هام إذ أنه أصعب بكثير من اجتياز امتحانات لمقررات صعبة.
عندما يقوم عضو هيئة تدريسية بالضغط على طالبه أثناء إنجاز بحثه العلمي الهدف هنا هو تحديد نقاط ضعف الطالب من أجل معرفة أين يجب استثمار جهد الطالب و توجيهه و بلا شك هذا يعد صعبا على الطالب الذي اعتاد على الإجابات الصائبة و السريعة.
لصياغة بحث علمي يجب طرح عدة أسئلة متعلقة بموضوع البحث:
معرفة الوضع الحالي للموضوع الذي تم طرحه ثم الحالة التي من المتوقع أن نصل إليها بعد انتهاء المشروع، حيث يجب صياغة فكرة البحث بأبسط طريقة ممكنة و تحديد الأهداف المراد تنفيذها لاختبار الفرضية التي قمنا بصياغتها مع عدم نسيان طرح ستة أسئلة على كل هدف نريد تنفيذه و هي : كيف، من، متى، أين، لماذا، ماذا
بالإجابة على هذه الأسئلة نكون قد أدركنا ماذا نفعل و أين سيتم تنفيد البحث و متى يتم إجراءه، كل هذا يؤدي إلى إجراء بحث علمي بشكل منتظم و الابتعاد عن العشوائية في التنفيذ والتي بدورها كفيلة بإبعادنا كل البعد عن مسار البحث العلمي الصحيح.
في نهاية المطاف يمكننا القول بأنه كلما أصبحنا مرتاحين مع كوننا أغبياء (غباء علمي) كلما كانت لدينا الإمكانية في الخوض بشكل أعمق بالمجهول و النتيجة غالبا ستكون اكتشافات كبيرة و بالتالي الشعور بالغباء هو شعور شائع في البحث العلمي ولا يوجد ما يسمى بالسؤال الغبي لأن السؤال الغبي الوحيد هو الذي لم يُطرح سابقا لأن طرح أسئلة جديدة متعلقة بالبحث هو أصعب بكثير من إعطاء إجابات جيدة و كما يقال << إن مجرد صياغة مشكلة هو في كثير من الأحيان أكثر أهمية من حلها>> حيث لا ينبغي التغاضي عن الغباء في البحث العلمي لأن الغباء يمكن أن يوفر منظورا فريدا حيث أحد الأشياء الجميلة في البحث العلمي هو أنه يسمح لنا بالتعثر و الشعور بالرضا يتحقق طالما نتعلم شيئا ما في كل مرة نتعثر فيها.
لقراءة المقال الأصلي للبروفيسور مارتن شوارتز الذي ناقشت فحواه في مقالي هذا :
https://journals.biologists.com/jcs/article/121/11/1771/30038/The-importance-of-stupidity-in-scientific-research