انفصال الدولار عن عوائد السندات: اللحظة الأمريكية الأخطر منذ عقود؟
كلية العلوم الإدارية و المالية - الجامعة الوطنية الخاصة
انفصال الدولار عن عوائد السندات: اللحظة الأمريكية الأخطر منذ عقود؟
الدكتور إبراهيم نافع قوشجي
تُعتبر العلاقة الطردية بين الدولار الأمريكي وعوائد السندات من المسلمات في الأسواق المالية، حيث يتحرك الاثنان عادةً في نفس الاتجاه في الظروف الطبيعية. إلا أن هذه العلاقة تشهد اليوم تفككاً ملحوظاً، إذ ينخفض الدولار الأمريكي بينما ترتفع عوائد السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات بقوة.
تشير بعض التقارير إلى أن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن جولة جديدة من التعريفات الجمركية والحصار التجاري ضد الصين قد يكون أحد العوامل المؤثرة. بينما يرى آخرون أن السبب الأعمق يكمن في فقدان الثقة بهيكلية الدين الأمريكي وما يُسمى “قدسية” سندات الخزانة.
أولاً- السندات السيادية الأمريكية ركيزة الأسواق المالية العالمية:
تُمثل السندات السيادية الأمريكية، المعروفة باسم “سندات الخزانة الأمريكية” (U.S. Treasury Securities)، أحد أهم الأدوات المالية على مستوى العالم. تُصدرها حكومة الولايات المتحدة لتمويل النفقات العامة وإدارة الدين الوطني، وتلعب دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي كملاذ آمن للمستثمرين خلال فترات الأزمات. تتميز هذه السندات بسمعة فريدة تجعلها أساساً لتسعير الأصول الأخرى ومرجعاً لأسعار الفائدة العالمية.
ثانياً- أنواع السندات السيادية الأمريكية :
ثالثاً- الدور الاقتصادي والمالي للسندات الخزينة :
رابعاً- هيكل سوق السندات السيادية وأداؤه:
– السوق الأولي: تُطرح السندات عبر مزادات إلكترونية يُديرها الاحتياطي الفيدرالي، حيث تحدد الأسعار بناءً على نسبة الطلب إلى العرض (Bid-to-Cover Ratio).
– السوق الثانوي: يتميز بتداول نشط مع سيولة عالية، حيث يتجاوز الحجم اليومي 600 مليار دولار وفقاً لبنك التسويات الدولية (BIS).
– المستثمرون الرئيسيون:
– أجانب: تمتلك دول مثل اليابان والصين نحو 30% من إجمالي الدين العام الأمريكي.
– مؤسسات مالية: تشمل البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار.
– الاحتياطي الفيدرالي: يمتلك حوالي 20% من إجمالي السندات القائمة (حتى 2023).
خامساً- المخاطر والتحديات:
مقارنة بين السندات السيادية الأمريكية والسندات السيادية الأخرى (2025):
تلعب السندات السيادية دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي، حيث تُستخدم كأدوات لتسعير الأصول وتحديد أسعار الفائدة. تمتاز السندات السيادية الأمريكية بكونها معياراً عالمياً، لكن المنافسة من دول أخرى مثل اليابان والصين والاتحاد الأوروبي تُظهر تغيرات جوهرية في الديناميكيات الاقتصادية.
يناقش الجدول الآتي مقارنة بين السندات السيادية الأمريكية والسندات السيادية لدول أخرى، حيث يسلط الضوء على الحجم السوقي والعوائد والتصنيفات الائتمانية والمخاطر الرئيسية
اليابان | الصين | الاتحاد الأوربي | الولايات المتحدة | المعيار |
10 تريليون دولار | 11 تريليون دولار | 12 تريليون دولار | 31 تريليون دولار | الحجم السوقي |
0.6% | 2.5% | ألمانيا 2.5% | 4.3% | العائد (10 سنوات) |
A+ | A+ | فرنسا AAA | ++AA | التصنيف الائتماني |
دين مرتفع | أزمة العقارات | تباطؤ النمو | التضخم+ سقف الدين | المخاطر |
المصدر: إعداد الباحث بناء وكالات التصنيف الائتماني (موديز، ستاندرد آند بورز).
من الجدول السابق نجد
1-الحجم السوقي:
2-العائد (10 سنوات):
3-التصنيف الائتماني:
4- المخاطر:
سادساً- الحرب التجارية مع الصين وتأثيرها على السندات السيادية الأمريكية: تحليل متعدد الأبعاد:
على الرغم من امتلاك الصين حصة كبيرة من السندات السيادية الأمريكية (حوالي 850 مليار دولار حتى 2023)، فإن الحرب التجارية بين البلدين تؤثر على هذه السندات عبر آليات معقدة، تتراوح بين العوامل الاقتصادية والاستراتيجيات الجيوسياسية.
1- استخدام السندات كأداة جيوسياسية:
تهديد الصين ببيع السندات يمكن أن تستخدم الصين حيازتها الكبيرة كسلاح اقتصادي لمواجهة الرسوم الجمركية الأمريكية، لكن ذلك يحمل مخاطر كبير على الاقتصاد الصيني منها خسائر مالية إن باعت الصين كميات كبيرة سيخفض أسعار السندات، مما يُقلل قيمة الاحتياطيات الصينية، مما يهدد بتدمير الثقة العالمية في استقرار النظام المالي العالمي.
مع العلم أن الصين قلصت حيازتها بنحو 200 مليار دولار بين 2013 و2023، لكن ذلك لم يُحدث اضطرابات كبيرة بسبب سيولة السوق الهائلة.
2- تأثير الحرب التجارية على الاقتصاد الأمريكي والسياسة النقدية:
حرب الرسوم الجمركية المتبادلة تُضعف النمو في كلا البلدين (أمريكا والصين)، مما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة، ومع ارتفاع معدل التضخم: بسبب الرسوم على الواردات، مما يؤثر على أسعار السندات.
3- تقلبات سعر الصرف وتأثيره على العوائد:
قد تسمح الصين بانخفاض قيمة اليوان كرد على الرسوم الأمريكية، مما يزيد تكلفة خدمة ديونها المقومة بالدولار. ويمكن أن تقوم الصين بتحويل استثماراتها إلى أصول أخرى مثل الذهب أو السندات الأوروبية لتعويض خسارتها.
4- التداعيات الهيكلية طويلة الأجل
قد تدفع الحرب التجارية دولاً مثل الصين إلى تقليل اعتمادها على الدولار، فإذا نجحت الصين في تعزيز نظام مالي موازٍ، قد تنخفض مكانة السندات الأمريكية كمعيار عالمي، أي تآكل الهيمنة الأمريكية.
5- محدودية تأثير الصين بسبب حجم السوق الأمريكي:
حجم سوق السندات الأمريكية يتجاوز 31 تريليون دولار، مما يجعل تأثير أي بيع صيني محدوداً، ومن مصلحة الصين الذاتية فإثارة اضطرابات كبيرة في السوق ستضر باقتصادها المرتبط بالصادرات إلى الولايات المتحدة.
سابعاً- توازن دقيق بين القوة والاعتماد المتبادل :
رغم أن الحرب التجارية تخلق ضغوطاً على السندات الأمريكية، فإن الاعتماد المتبادل بين الاقتصادين والعمق الاستثنائي لسوق السندات يحدان من التأثير الكارثي. الصين توازن بين استخدام السندات كأداة ضغط والحفاظ على استقرار النظام المالي الذي تستفيد منه. في النهاية، تبقى السندات الأمريكية ركيزة يصعب استبدالها في المدى المنظور، حتى مع تصاعد التوترات.
ثامناً- انفصال الدولار عن العوائد كتحول جوهري:
لم يعد انفصال الدولار عن عوائد السندات مجرد ظاهرة فنية، بل يُعد تحولاً في بنية السرد العالمي الذي حكم الأسواق منذ اتفاقية بريتون وودز. إذا استمر هذا الانفصال، فقد يبدأ السوق بتسعير نهاية الامتياز النقدي الأمريكي كما نعرفه. اليوم، الخطر لا يأتي من الصين أو روسيا، بل من الداخل الأمريكي نفسه، عجز مالي متصاعد، طبقة سياسية بلا ضوابط، وحرب تجارية تعيد تشكيل سلاسل التوريد العالمية.
انفصال الدولار عن عوائد السندات الأمريكية ليس مجرد تذبذب سوقي، بل إنذار بتحول جوهري في النظام المالي العالمي. والتحديات الحقيقية تأتي من الداخل الأمريكي (عجز مالي متفاقم، سياسات غير منضبطة، وحرب تجارية تهدد مكانة الدولار).
وأخيراً، في المدى القريب، سيظل الدولار مهيمناً بفضل حجم السوق والسيولة، لكن على المدى الطويل، قد تؤدي التعددية النقدية (مثل اليوان الرقمي والعملات المشفرة) إلى تقليص هيمنته. النتيجة المحتملة ليست انهياراً مفاجئاً، بل تحولاً تدريجياً نحو نظام مالي متعدد الأقطاب، ومستقبل الدولار يعتمد على قدرة الولايات المتحدة على إصلاح اختلالاتها الداخلية، وإيقاف تحويل السياسة النقدية (الدولار) إلى سلاح جيوسياسي. فقد يكون العدو الحقيقي للدولار هو الولايات المتحدة نفسها في ظل اضطراب النظام الاقتصادي العالمي، وتصبح السندات المضمونة ديون معدومة.
المراجع:
– بيانات بنك التسويات الدولية (BIS).
– تقارير مكتب الميزانية الكونغرسي (CBO).
– تحليلات وكالات التصنيف الائتماني (موديز، ستاندرد آند بورز).
– إحصاءات وزارة الخزانة الأمريكية.