الملخص
تهدف المقالة إلى توضيح بعض المفاهيم والمصطلحات لكلٍ من علم النفس والسلوك، إضافةً إلى المفاهيم الاقتصادية وثيقة الصلة وذلك من خلال المراجعة التاريخية والأدبية للأبحاث والأوراق العلمية التي عنيت بها. كما تناقش المقالة بعض الإشكاليات والتداخل المفاهيمي ما بين علم النفس والاقتصاد والتي أدت لاحقاً إلى ترسيخ أسس التمويل السلوكي، ومناقضته لفرضيات كانت أساسية في التحليل الاقتصادي من مثل العقلانية وكفاءة السوق وغيرها.
الكلمات المفتاحية: السلوكية – علم النفس المعرفي – المنفعة – المشاعر الأخلاقية.
مقالة علمية تهدف إلى تسليط الضوء على بعض المفاهيم الحديثة نسبياً في التمويل والاقتصاد من خلال المراجعة التاريخية والأدبية.
تنص مبادئ علم الاقتصاد على أن السوق هو الموجّه الأساسي للسلوك الهادف إلى تحقيق توازن تنافسي، يتصرف فيه جميع الفاعلين الاقتصاديين على النحو الأمثل، مما ينتج عنه تعظيم رفاهية المجتمع، ومع ذلك، فقد رأى العديد من الاقتصاديين أوجه قصور في هذه الصورة المثالية للسوق، تمظهرت في أشكال المعلومات المحدودة، وقلة المشترين أو البائعين، والاختيار المضاد، والمخاطر الأخلاقية، والمحاذير الأخرى.
ليس مستغرباً أن تُطرح مجموعة واسعة من التساؤلات حول كيفية ظهور مبادئ السلوك البشري في الاقتصاد وكيفية ارتباطها بالتحقيقات الفلسفية أو العلمية الأخرى للسلوك البشري. تمحورت الإجابة التي قُدمت في سبعينيات القرن التاسع عشر حول إعادة تعريف مفهوم المَنفَعَة، الذي شكّل أساس الاقتصاد النيوكلاسيكي، إذ كتب Bentham على نطاق واسع حول الأسس النفسية للمنفعة، وتحول المفهوم من قياس ثروة الأمة إلى قياس الحالة العقلية لكائن اقتصادي يتبع مذهب المتعة، بذلك لم تَعد المَنفَعَة مفهوماً عاماً وغامضاً نسبياً لثروة الأمة ككل، بل أصبحت مقياساً تجريبياً للمتعة التي يحصل عليها الأفراد.
من ناحية أخرى، نشأ مجال علم النفس الفيزيائي (Psychophysics) الجديد في ستينيات القرن التاسع عشر بالاعتماد على أعمال Gustav Fechner و Ernst Weber وWilhelm Wundt، الذي استخدم من قبل الاقتصاديين وعلى وجه الخصوص Jevons كوسيلة لتوفير الأساس العلمي لإعادة تفسير المَنفَعَة، وتوضيح جميع الافتراضات المتعلقة بالسلوك البشري والعقل البشري من خلال البحث التجريبي، مفضِّلاً أن يكون البحث التجريبي (مقابل التكهنات الفلسفية). أرست ما تم تسميتها بالثورة الهامشية التي قام بها Jevons, Menger, Walras أسس للاقتصاد صراحةً في علم النفس.
قدَّم علم النفس حلاً لتوضيح تصرفات الأفراد الفاعلين اقتصادياً، وكيفية اتخاذهم للقرار، في الوقت الذي تعثر فيه إيجاد التفسيرات والمبررات الاقتِصاديّة البحتة. توضّح فيما تم تسميته السُّلوكيّة أو “Behaviorism” ويقصد بها الطريقة المنهجية لفهم سلوك البشر، إذ يُفترض أن السلوك هو إما رد فعل ناتج عن اقتران بعض المحفزات في البيئة، أو نتيجةً لتاريخ الفرد [1].
يُعدُّ استخدام مصطلح “السلوك” أو “السلوكي” اقتصادياً في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، مفارقة تاريخية -أي أن المصطلح استخدم في غير مكانه وزمانه الصحيحين- لأن السلوك كمفهوم يشمل جميع الإجراءات والأفعال التي يقوم بها الأفراد أو الأنظمة أو الكيانات خلال تفاعلهم سواء مع أنفسهم أو مع البيئة المحيطة بهم، إذ يُعدُّ استجابة للعديد من المحفزات أو المدخلات على اختلاف أنماطها. [2]
لم يتم استخدام المصطلح على نطاق واسع إلا بعد أن أنشأ James Miller (1949) لجنة العلوم السُّلوكيّة في قسم علم النفس بجامعة Chicago، كان قد انتشر استخدام مصطلح الاقتصاد السلوكي في البداية في معهد البحوث الاجتماعية بجامعة Michigan في أواخر الأربعينيات، حيث وضَّح George Katona المعروف بمساهماته التطبيقية والنَظَريّة في علم النفس، الاقتصاد السلوكي باعتباره تحقيقاً في السلوك الاقتصادي، أي أنه فئة فرعية من السلوك يتعلق بأنشطة الوكيل الاقتصادي [3]. محاولاً للتقريب بين علمي النفس والاقتصاد، إذ يرى بأن النَظَريّة الاقتِصاديّة التَقليديّة لم تثبت نجاحها دوماً، والعديد من آثارها وتوقعاتها لم تكن صحيحة. كما تتمثل إحدى الطرق الممكنة لمحاولة تحسين النَظَريّة التَقليديّة للسلوك الاقتصادي في تقديم افتراضات وفرضيات جديدة [4].
يُعدُّ Ward Edwards من بين المستخدمين الآخرين لمصطلح الاقتصاد السلوكي، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، واستخدمه كاسم لفرع عملياته البحثي المسمى أبحاث القرار السلوكي، وهو مجال جديد يُطبق النظريات الاقتِصاديّة على المشكلات النفسية، وقد اعتمد في ذلك على أسس نَظَريّة المَنفَعَة وتعديلاتها [5].
قدَّم Herbert Simon ما وصفه بالاقتصاد السلوكي كبديل للمدرسة النيوكلاسيكية المهيمنة في الاقتصاد في أواخر الستينات. في وقت لاحق، تم اختيار تسمية الاقتصاد السلوكي من قبل الاقتصاديين الذين سعوا إلى إصلاح وجهة النظر النيوكلاسيكية السائدة على غرار الخطوط التي وضعها Simon. ولكن بشكل أكثر وضوحاً. فيما بعد أنشئ Daniel Kahneman وRichard Thaler وEric Wanner برنامج الاقتصاد السلوكي في مؤسسة Alfred P. Sloan عام 1984.
جديرٌ ذكره، أن ما جلبه علماء النفس إلى علم الاقتصاد في الثمانينيات هو فكرة أن العيوب أو الاختلالات في السوق قد تكون، بالإضافة إلى العوامل الأساسية المفسرة لها، ناجمة عن السلوك البشري للأطراف الفاعلة اقتصادياً، الذي نتج عنه لاحقاً فرع جديد للاقتصاد سُمِّي الاقتصاد السلوكي [6].
يُعدُّ الاقتصاد السلوكي علماً تجريبياً، إذ يُبنى على التجارب التي تجمع بين الاستدلال الاقتصادي والاستقراء النفسي، مما يجعل منه وسيلة تكميلية تشرح كيفية صناعة القرار الاقتصادي [7]. كما يرتبط على نحوٍ وثيقٍ بأساسيات علم الاقتصاد، الهادف إلى دراسة السلوك البشري وطرق اتخاذ القرارات لتخصيص الموارد بكفاءة. في هذا السياق، يُقدِّم الاقتصاد السلوكي بوصفه أحد مجالات الاقتصاد، وسائل نَظَريّة ومنهجية لفهم السلوك البشري من خلال الجمع بين مبادئ العلوم السُّلوكيّة والاقتصاد الجزئي [8].
إن عقلانيّة الوكلاء الاقتصاديين (Rational Homo Economicus) هو الافتراض الأساسي الذي يتم تخصيص الموارد الاقتِصاديّة وفقاً له، وإذا تحقق هذا الافتراض، فإن عمليّة اتخاذ القرار ستكون عقلانيّة أيضاً، مع الأخذ بالاعتبار جميع المعلومات المتاحة واستخدمها بهدف تعظيم منفعة صانع القرار [9]، لأن القرارات العقلانيّة البحتة تتطلب موازنة جميع البدائل.
في بدايات الفكر الاقتصادي، لم يكن علم النفس موجوداً كتخصص. عمل العديد من الاقتصاديين كعلماء نفس في عصرهم. كتب Adam Smith، المعروف بمفهوم “اليد الخفية” وثروة الأمم، كتاباً أقل شهرة “Theory of Moral sentiment” أو “نَظَريّة المشاعر الأخلاقية”، أرسى من خلاله المبادئ النفسية للسلوك الفردي، التي يمكن القول إنها عميقة مثل ملاحظاته الاقتِصاديّة [10] .
علَّق Smith: [11] “نعاني أكثر عندما ننتقل من وضع أفضل إلى وضع أسوأ، أكثر مما نتمتع به عندما نرتقي من الأسوأ إلى الأفضل” وهو ما يُعرف حالياً بمفهوم تجنُّب الخسارة!
يقود الطرح السابق إلى نتيجة مفادها أن الاقتصاد السلوكي ليس مجالاً جديداً مستقلاً بحد ذاته عن الاقتصاد، وإنما تعود جذوره إلى بدايات الفكر الاقتصادي، ومن ثم يمكن تعريفه على أنه فرع من علم الاقتصاد يقتبس من علم النفس، ويختبر افتراضات تجريبية مستخدمة في علم الاقتصاد، كما يوفر نظريات تهدف إلى أن تكون أكثر واقعية ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبيانات التجريبية والميدانية [12].
يُعرّف Camerer (1999) الاقتصاد السلوكي بأنه برنامج بحثي يهدف إلى إعادة توحيد علم النفس والاقتصاد، بدلاً من تقديم توليفة جديدة تماماً [13]. يصف Rabin (1998) الاقتصاد السلوكي بأنه “علم النفس والاقتصاد” معاً، وهو مرادف شائع الاستخدام في الاقتصاد السلوكي [14]. بينما يرى Camerer et. al. (2004) أن الاقتصاد السلوكي يزيد من القوة التفسيرية للاقتصاد من خلال تزويده بأسس نفسية أكثر واقعية [15].
تخفي التعاريف السابقة علاقة معقدة بين علم الاقتصاد وعلم النفس تعود على الأقل إلى القرن الثامن عشر، وتشير إلى أن الاقتصاد وعلم النفس كيانان مستقلان. لكن تسمية الاقتصاد السلوكي ذاته تبدو غريبة أيضاً. إذا كان علم الاقتصاد يتعامل مع سلوك الأفراد في الاقتصاد، فإن “الاقتصاد السلوكي” يبدو أمراً محيراً. من ناحية أخرى، إذا جادلنا بأن الاقتصاد بالتعريف يتعامل مع الهياكل والمؤسسات التي تحل محل نظريات السلوك البشري وتكون مستقلة عنها، فإن “الاقتصاد السلوكي” يبدو متناقضاً.
لم تكن الحدود بين علم الاقتصاد وعلم النفس والعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى مستقرة ومحددة جيداً، حتى على مستوى المنشورات الفردية، فإن التقسيمات المعيارية أثارت الإشكالية، بدلاً من توضيحها وتوصيفها، إذ تم وصف نَظَريّة الألعاب والسلوك الاقتصادي لـ von Neumann, Morgenstern (1944) بأنها مساهمة كبيرة في مجالهم من قبل الاقتصاديين وعلماء النفس والأحياء والرياضيات.
قدم علماء النفس الرياضي Krantz (1971) وLuce (1990) وFishburn (1989) مؤلفاتهم “أُسس القياس” لتوسيع عمل الاقتصادي Gerard Debreu. على الرغم من ذلك فقد وصفت بأنها مساهمة في العلوم التجريبية بشكل عام، أي الرياضيات، والاقتصاد، وعلم النفس، وغيرها، إذ اعتبرت مساهمة في “منهجية” العلم. على الرغم من أنه كان متأصلاً بشكل أساسي في علوم القرن العشرين، إلا أن التمييز بين التخصصات المُختَلِفة التي استخدمت لم يكن مستقراً أو محدداً بوضوح.
السبب الثاني للطبيعة الإشكالية بين علم النفس والاقتصاد هو أنه إذا كان هناك ثابت واحد في علم الاقتصاد وعلم النفس، عندها يوجد على الأقل محاولة واحدة لعبور الحدود المزعومة بين المجالين وجعلها تختفي، فقد كانت محاولات توحيد العلوم السُّلوكيّة والاجتماعية موضوعاً ثابتاً في الأبحاث والمنشورات المعنية.
ومع ذلك، على الرغم من التاريخ المعقد للاقتصاد وعلم النفس، والمحاولات المستمرة لتجاوز الحدود بينهما وحلها، لا ينبغي أن نتجاهل أياً منهما بوصفهما تسميات لمشاريع علمية متداخلة أو غير قابلة للتمييز. على الرغم من جميع الفروق الدقيقة التي يمكن الاستشهاد بها، فإن علم الاقتصاد وعلم النفس هما مثال التناقضات العلمية المفيدة [16].
بدأ رفض الاقتصاديين لعلم النفس الأكاديمي، ربما بشكل متناقض إلى حد ما، بالثورة النيوكلاسيكية [17]، في البداية لم يكن هنالك خلاف شاسع بين الاقتصاديين وعلماء النفس، إذ اتحدوا على رفض مذهب المتعة كأساس للسلوك. انتقد William James (1890) أتباع المتعة النفسية لأنهم يفترضون دون أساس أن السلوك يهدف دائماً إلى تحقيق أقصى قدر من المتعة وأدنى حد من الألم؛ لكن السلوك غالباً ما يكون مندفعاً، وليس موجهاً نحو هدف معين، وبرأي William McDougall (1890) أن الاقتصاد السياسي الكلاسيكي كان نسيجاً من الاستنتاجات الخاطئة المستمدة من الافتراضات النفسية الخاطئة [18].
حدث شطب علم النفس من الاقتصاد ببطء. كانت أعمال الاقتصاديين مثل Fisher وPareto في الجزء الأول من القرن العشرين، لا تزال تتضمن تكهنات ثرية حول كيفية تفكير الأفراد في الخيارات الاقتِصاديّة. لاحقاً، لجأ Keynes كثيراً إلى الأفكار النفسية، ولكن بحُلُول منتصف القرن اختفت المناقشات حول علم النفس إلى حد كبير. خلال النصف الثاني من القرن العشرين، قدم باحثون مثل Katona, Leibenstein, Scitovsky, Simon مجموعة من الأعمال العلمية جذبت الانتباه لكنها لم تغير الاتجاه الأساسي للاقتصاد [19].
المراجع :
– Araiba, S. (2019). Current diversification of behaviorism. Perspectives on Behavior Science, 1-19. P.2.
– Bergner, R. M. (2011). What is behavior? And so what?.New ideas in psychology, 29(2), 147-155. P.150.
– Katona, G. (1975). Psychological Economics. Elsevier Scientific Publishing Company, New york. 438.
– Katona G. (1980). Essays on Behavioral Economics, the Institute for Social Research, University of Michigan, P. 45.
– Edwards, W. (1961). Behavioral decision theory. Annual review of psychology, 12(1), 473-498. P. 474.
– Heukelom, F. (2014). Behavioral economics: A history. Cambridge University Press. 2-4.
– Brzezicka, J. and R. Wisniewski, (2013). Homo economicus and behavioral economics. Contemporary Economics, 8(4): 353–364.
– Sijabat, R. (2018). Understanding Behavioral Economics: A Narrative Perspective. Asian Development Policy Review, 6(2), 77-87. P. 78.
– Albanese, P. (2006). Inside economic man.Handbook of contemporary behavioral economics,1. 3.
– Thaler, R. H. (2016). Behavioral economics: Past, present, and future.American Economic Review, 106(7), 1577-1600. P.1579.
– Smith, A. (1759/1892). The Theory of Moral Sentiments. New York: Prometheus Books. P. 311.
– Berg, N. (2010). Behavioral economics. 21st century economics: A reference handbook, 2, 861-872. P. 862.
– Camerer, C. (1999). Behavioral economics: Reunifying psychology and economics. Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America, 96, 10575–10577.
– Rabin, M. (1998). Psychology and economics. Journal of Economic Literature, 36, 11–46. P. 11.
– Camerer, C. F., Loewenstein, G., & Rabin, M. (Eds.). (2004). Advances in behavioral economics. Princeton university press. P. 3.
– Heukelom, F. (2014), مرجع سبق ذكره, P. 6.
– Hands, D. W. (2010). Economics, psychology and the history of consumer choice theory. Cambridge Journal of Economics, 34(4), 633-648. P. 636.
Lewin, S. B. (1996). Economics and psychology: Lessons for our own day from the early twentieth century.Journal of economic literature, 34(3), 1293-1323. P.1299.
– Camerer, C. F., & Loewenstein, G. (2003). Behavioral economics: Past, present, future. Russell Sage Foundation and Princeton University Press, 1-61. P. 4.