الهندسة الاقتصادية الخفية تحليل استراتيجية "الركود المُقصود" لإدارة الديون الأمريكية
كلية العلوم الإدارية و المالية - الجامعة الوطنية الخاصة
الهندسة الاقتصادية الخفية تحليل استراتيجية “الركود المُقصود” لإدارة الديون الأمريكية
الدكتور إبراهيم نافع قوشجي
في عالم الاقتصاد الحديث، تواجه الدول تحديات ضخمة تتطلب حلولاً مبتكرة للتغلب على الأزمات المحتملة. وتُعد استراتيجية “الركود المُقصود” إحدى هذه الحلول التي تهدف إلى هندسة تباطؤ اقتصادي قصير المدى لتجنب أزمة الديون الأمريكية الكبيرة والمرعبة. لذلك لا بد لنا أن نستعرض السياق التاريخي لهذه الاستراتيجية، الأدوات المستخدمة لتطبيقها، وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.
خلال الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، اعتمدت الحلول الاقتصادية على التحفيز المباشر من خلال مشاريع البنية التحتية لمواجهة الركود. في الثمانينيات، استخدم رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بول فولكر رفع أسعار الفائدة بشكل حاد (حتى 20%) لاحتواء التضخم، مما تسبب في ركود قصير انتهى بانتعاش طويل الأجل.
ويظهر اختلاف جوهري بين الخطة الحالية والتي تركز على هندسة أزمة صغيرة بشكل استباقي لتجنب أزمة أكبر، بدلاً من البحث عن حلول تقليدية بعد حدوث الأزمة الكبيرة، أي “الركود قد يكون دواءً مريراً لمرض أخطر”
الأرقام المقلقة للاقتصاد الأمريكي، بحلول عام 2026، تَستحق ديون أمريكية بقيمة 7.2 تريليون دولار بفوائد تتراوح بين 0.5% و1.5%. وإن عوائد السندات الحالية تجاوزت 4.6%. وهذا يعني أن كل ارتفاع بنسبة 1% في العائد يعني زيادة سنوية تُقدر بـ90 مليار دولار كتكلفة فائدة إضافية على الدين العام الأمريكي.
أ. الأدوات المباشرة:
– الوظيفة الظاهرة: حماية الصناعة المحلية.
– الوظيفة الخفية أو الحقيقية: إرباك سلاسل التوريد، مما يقلل الإنتاجية ويُبطئ التضخم.
– المثال التاريخي: دفع دول العالم للتفاوض مع الحكومة الأمريكية لإبرام اتفاقيات ثنائية كاتفاقية “بلازا” في عام 1985 لإضعاف الدولار أمام الين الياباني.
الضغط على البنك الفيدرالي الأمريكي لخفض الفائدة على الرغم من التضخم.
ب. الأدوات غير المباشرة:
أ. الآثار الاقتصادية:
– الإيجابيات: خفض تكلفة تمويل الاستثمار داخل الاقتصاد الأمريكي بنسبة 25% إذا انخفضت عوائد السندات إلى 3%، مما يعزز القدرة التنافسية للدولار وجذب الاستثمارات كبيرة للاقتصاد الأمريكي.
– السلبيات: تراجع الثقة في الأصول التكنولوجية والعملات المشفرة. وارتفاع مخاطر الركود العالمي.
ب. التكاليف الاجتماعية:
زيادة الفوارق الطبقية وتضرر العمالة غير الماهرة وارتفاع البطالة إلى 6.7% لعام 2026 مقارنة بـ3.5% عام 2023.
اتخذت الصين خطوات استباقية لتعزيز استقلالها النقدي عبر زيادة احتياطياتها من الذهب بشكل ملحوظ.، وتضاعفت حيازات الصين من الذهب بأكثر من 60% منذ 2015، حيث أصبحت تحتل المرتبة السادسة عالمياً بأكثر من 2,200 طن من الذهب في عام 2023.
((World Gold Council 2023.
يأتي ذلك في إطار استراتيجية أوسع لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، خاصة بعد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة وتصاعد مخاطر استخدام الدولار كأداة للعقوبات الاقتصادية.
تبنت الصين سياسة التجارة باليوان المدعوم بالذهب (Gold-Backed Yuan) لتعزيز مكانة عملتها كبديل للدولار في المعاملات الدولية. ففي 2023، أعلنت مجموعة بريكس (BRICS) عن خطط لإنشاء نظام دفع جديد يعتمد على سلة عملات تشمل اليوان المدعوم بأصول ملموسة مثل الذهب. هذه الخطوة تهدد مباشرة هيمنة الدولار، الذي يشكل حوالي 58% من الاحتياطيات العالمية (لصندوق النقد الدولي، 2023)، ولكن حتى الآن (2025)، لم تحقق بريكس تحولًا ملموساً في هيمنة الدولار بسبب عدم وجود بديل كامل لسيولة الدولار واختلاف مصالح أعضاء بريكس مثل الهند التي تتعامل بحذر مع هيمنة اليوان.
رداً على التحدي الصيني، استخدمت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية كأداة لضرب الاقتصاد الصيني. ففي 2018، فرضت إدارة ترامب تعريفات على واردات صينية بقيمة 370 مليار دولار، ثم زادتها إدارة بايدن لاحقاً Peterson Institute for International Economics,2023)). لكن هذه الإجراءات لم توقف تحول الصين نحو التقليل من الاعتماد على النظام المالي الأمريكي، بل عززت تحالفاتها مع دول مثل روسيا والمملكة العربية السعودية لتسوية التجارة باليوان. (Bloomberg 2023).
سوف تؤثر هذه السياسة سلبياً على معيشة الفئات الضعيفة بهدف تحقيق أهدافها الاقتصادية مما تُثير مخاوف أخلاقية أهمها:
1- التضحية بالفئات الضعيفة: سيؤدي إلى ارتفاع البطالة (إلى 6.7%) وسيُضر بالعمالة غير الماهرة والشباب وذوي الدخل المحدود، دون ضمانات لتعويضهم، وستظهر إشكالية “العدالة بين الأجيال” حماية الجيل الحالي من أزمة ديون قد يترك للأجيال القادمة إرثاً ثقيلاً من التفاوت الطبقي وانخفاض المستوى المعاشي لأصحاب الدخل المحدود.
2- مخاطر التحول من ركود مُتحكم فيه إلى أزمة اجتماعية: التجارب التاريخية (مثل تقشف اليونان 2010). أما بالنسبة للحالة الأمريكية إن خرجت “الخطة المُحكمة” عن السيطرة وانفجرت اضطرابات اجتماعية، سوف تتحول إلى أزمة شرعية للنظام الرأسمالي نفسه.
لا يمكن فصل نجاح أي استراتيجية اقتصادية عن مدى عدالتها الاجتماعية. “الركود المُقصود” ليس مجرد معادلة مالية، بل اختبارٌ لأخلاقية النظام الاقتصادي وقدرته على حماية البشر قبل الأرقام.
عند تحليل استراتيجية “الركود المُقصود”، وتداعياتها المحتملة، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية تتفاوت في درجة احتمالية حدوثها وتأثيراتها على الاقتصاد الكلي الأمريكي والنظام المالي العالمي. يعتمد نجاح هذه الاستراتيجية بشكل جوهري على التفاعل المعقد بين السياسات النقدية، والديناميكيات السوقية، والتوقعات الاقتصادية العالمية، مما يستدعي دراسة متأنية لكل سيناريو على حدة.
أولاً- يظهر سيناريو النمو المستقر (الاحتمالية 40-50%) كأكثر النتائج إيجابية، حيث تشير تقديرات صندوق النقد الدولي (2023) إلى إمكانية تحقيق معدل نمو يتراوح بين 2-2.5% مع استقرار عوائد السندات في نطاق 3.5-4%. هذا المسار من شأنه، وفقاً لتحليلات جولدمان ساكس (2023)، أن يؤدي إلى تخفيض تكاليف خدمة الدين بنسبة 15-25%، مع الحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسية. ولتحقيق هذا السيناريو يتطلب توازناً دقيقاً في السياسات النقدية والمالية معاً، وهو ما أكدته تقارير مجلس الذهب العالمي عام 2023 في تحليله لاستراتيجيات إدارة الديون.
ثانياً- يحذر سيناريو الركود الحاد (الاحتمالية 25-35%) من عواقب وخيمة على الاستقرار المالي، حيث يتوقع تقرير بلومبيرج للاقتصاد عام 2023 ارتفاع معدل البطالة إلى 7-9% وانكماشاً اقتصادياً بنسبة 1.5%. كما أكدت ذلك دراسات جامعة هارفارد عام 2023.
أما السيناريو الثالث والأكثر خطورة، هو انهيار النظام الرأسمالي (الاحتمالية 20-30%)، حيث تحذر تقارير بنك التسويات الدولية عام 2023 من مخاطر فقدان الثقة بالدولار في حال تجاوز معدل التضخم 8% مصحوباً بهروب رؤوس الأموال. هذا المسار الكارثي، الذي تناولته بالتحليل مجلة الإيكونوميست (2024)، قد يؤدي إلى فقدان الدولار لمكانته العالمية، وخاصة مع تصاعد التحالفات الدولية البديلة كما ظهر في مبادرات مجموعة بريكس (2023) لإنشاء نظام دفع جديد.
تظل هذه السيناريوهات نماذج تحليلية قابلة للتعديل حسب تطور المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية، حيث تشكل السياسات النقدية والمالية المتخذة، إلى جانب العوامل الجيوسياسية العوامل الحاسمة في تحديد المسار الفعلي للاقتصاد العالمي.
السيناريو | المحددات | الاحتمالية | التأثير |
نمو مستقر مع عوائد منخفضة | عوائد 3.5%-4%، معدل نمو 2.5% | 45% | تخفيض تكلفة الديون بنسبة 20% |
ركود حاد | بطالة 8%، انكماش 1.5% | 30% | أزمة ثقة في النظام المالي |
انهيار كلي | هروب رؤوس الأموال، تضخم 10% | 25% | فقدان الدولار لمكانته العالمية |
المصدر: إعداد الباحث بناءً على تقارير: (الإيكوميست وصندوق النقد الدولي وبروكينغ)
تُظهر استراتيجية “الركود المُقصود” بُعداً جديداً لإدارة الأزمات الاقتصادية عبر هندسة تباطؤ اقتصادي قصير المدى، مما يعكس عبقرية اقتصادية في مواجهة تحديات كبيرة مثل أزمة الديون الأمريكية. رغم النجاح المحتمل في تقليل التكاليف المالية وتعزيز الاستقرار المالي، تحمل هذه السياسات آثاراً اجتماعية وأخلاقية قد تثير مخاوف بشأن عدالتها وتأثيرها على الفئات الضعيفة في المجتمع.
أما من جانب التجارة الدولية، تُسبب هذه السياسات تغيرات ملحوظة في التدفقات التجارية وسلاسل التوريد العالمية. فرض التعريفات الجمركية والتلاعب بسعر العملة قد يؤدي إلى تقلبات في صادرات الدول وشركائها التجاريين، مما يؤثر على تنافسية الأسواق الدولية.
إن الاستراتيجية “الركود المُقصود” ليست مجرد معادلة مالية، بل اختبار لقدرة الأنظمة الاقتصادية على تحقيق توازن بين أهدافها المالية واعتبارات التجارة الدولية، دون التضحية بثقة شركائها التجاريين أو الفئات الأكثر ضعفاً. وبين النجاح المُحتمل والمخاطر الجسيمة، يبقى السؤال: هل يمكن لهذه السياسات أن تدعم الاستقرار الاقتصادي العالمي أم أنها قد تكون محفزاً لاضطرابات أكبر؟
المراجع: