كلية العلوم الإدارية و المالية - الجامعة الوطنية الخاصة
الهندسة الاقتصادية لمنظومة الإسكان في سوريا
المقدمة:
تُمثل أزمة الإسكان في سوريا إحدى أبرز تداعيات الاقتصادية المتجذرة للنظام السياسي البائد، حيث تداخلت فيها الأبعاد العمرانية والاجتماعية مع إخفاقات السياسات الاقتصادية العامة. فغياب استراتيجية إسكانية وطنية فعّالة منذ عقود، بالتزامن مع دمار واسع في المباني السكنية، أدى إلى تحول السكن من حق إنساني إلى ضرورة لتحقيق تنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن نحو ثلث الوحدات السكنية في المدن السورية قد دُمِّرت، ما يشير إلى عواقب هيكلية طويلة الأمد في التوازن السكاني والاقتصادي.
أولاً- تشخيص جذور الأزمة:
يواجه القطاع العقاري السوري اختلالات بنيوية متراكمة، ناتجة عن سياسات تنظيمية غير فاشلة امتدت لعقود، مما أدى إلى ارتفاع غير منطقي في أسعار العقارات في المدن السورية الرئيسة. والمفارقة الكبيرة أن هذه الأسعار تفوقت على مثيلاتها في العديد من العواصم العالمية، رغم الفارق الهائل في مستوى الدخل والمعيشة والخدمات ومن أهم الأسباب التي عمقت الأزمة الإسكانية في سوريا:
ثانياً- التحديات الاقتصادية لأزمة الإسكان في سوريا:
ثالثاً- تحديات تنظيمية وتشريعية:
يشهد قطاع الإسكان في سوريا أزمة عميقة ناتجة عن قصور في الأطر التشريعية وضعف في آليات الرقابة والتنفيذ. فقد منح القانون رقم 20 لعام 2015 المالكين حرية شبه مطلقة في تحديد شروط الإيجار دون وجود ضوابط حمائية للطرف المستأجر، ما أدى إلى انفلات الأسعار وتزايد حالات الإخلاء القسري، خاصة في المناطق ذات الطلب المرتفع على السكن (Legal Watch Syria, 2021) ومع غياب نماذج الإيجار الطويل الأجل، بات التملّك العقاري الخيار الوحيد أمام المواطنين، ما فاقم من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على الأسر ذات الدخل المحدود.
في الوقت نفسه، عرقل ضعف تطبيق القانون رقم 59 لعام 2008 قدرة الدولة على تنظيم سوق التطوير العقاري، حيث تغلغلت شركات غير مرخصة تفتقر إلى الجدارة الفنية والمالية، مستغلة بيئة قانونية رخوة وغياب الشفافية المؤسساتية (Transparency Syria, 2020) وقد أدّى هذا إلى احتكار الأراضي المنظمة، والمضاربة بها، وتجميد مشاريع التطوير الحقيقية التي تستهدف سد الفجوات السكنية في المدن الكبرى.
كما أن التداخل التشريعي بين قوانين التنظيم العمراني والإيجار والتطوير العقاري يخلق بيئة ضبابية تمنع المستثمرين الجادين من الدخول بثقة إلى السوق، وتحدّ من قدرة الجهات الحكومية على التحكّم في ديناميكيات العرض والطلب. ومع غياب السجلات العقارية المحدثة، وصعوبة إثبات الملكيات نتيجة النزوح والتدمير، تُضاف عقبات كبيرة أمام إعادة إعمار البنية السكنية بطريقة منصفة ومستدامة.
الجدول رقم (1) يوضح الوضع الديموغرافي والسكني في سوريا حتى منتصف عام 2025
المؤشر | البيانات الرقمية | المصدر المباشر |
إجمالي السكان | 25.62 مليون نسمة | توقعات “وورلدوميتر” (منتصف 2025) |
النمو السكاني السنوي | +947,667 نسمة (3.84%) | تقديرات النمو الديموغرافي (2025) |
المباني المدمرة/المتضررة | 470,000+ مبنى | البنك الدولي (2022) |
العائدون من النزوح (2024-2025) | 1.7 مليون (500 ألف لاجئ + 1.2 مليون نازح داخلياً) | المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (يوليو 2025) |
تكلفة إصلاح المنزل | 50 مليون ليرة سورية (≈4,545 دولار) | مفوضية اللاجئينUNHCR، 2023 |
الطلب السنوي على المساكن | 100,000+ وحدة سكنية | (البنك المركزي السوري، يوليو 2025) |
تكلفة إعادة الإعمار | 110 مليار دولار (للمساكن فقط) | عمار يوسف (أبريل 2025) |
يؤطر الجدول رقم (1) تحديات إعادة الإعمار والإسكان في سوريا وفق مؤشرات موثوقة ومحدثة
رابعاً- الآثار الاجتماعية لأزمة الإسكان في سوريا:
تمثل أزمة الإسكان في سوريا إحدى أبرز التحديات التي تؤثر بشكل مباشر على النسيج الاجتماعي، وتُفاقم من هشاشة الاستقرار الأسري والمجتمعي. فقد أظهر استطلاع أجرته منظمة Relief International أن نحو 76% من الشباب السوري يؤجلون قرار الزواج بسبب غياب السكن المستقل، ما يشير إلى تعطل أحد المسارات التقليدية لتكوين الأسرة، وتنامي الشعور بعدم الاستقرار والاغتراب بين فئة الشباب. هذا التأجيل لا يرتبط فقط بالظروف الاقتصادية، بل يعكس أيضاً اختلالاً عميقاً في إمكانية الوصول إلى بيئة سكنية لائقة وخصوصية معيشية مستقرة.
كما تحذر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) من أن نحو 70% من السوريين العائدين من النزوح أو اللجوء قد يغادرون البلاد مجددًا نتيجة لانعدام المأوى، ما يُضعف من فرص استقرارهم المحلي ويُهدد بحدوث موجات نزوح عكسي. هذا يشكّل عائقًا خطيرًا أمام جهود إعادة الإعمار، ويقوض إمكانيات التعافي الاجتماعي بعد الحرب، حيث ترتبط عودة السكان إلى مناطقهم بإمكانية الحصول على سكن آمن وقابل للعيش.
خامساً- نماذج دولية للتعافي السكني:
تُعَدّ مشكلة الإسكان من أبرز التحديات التي تواجه الدول النامية والمتعافية من النزاعات، إذ تتداخل فيها عوامل اقتصادية وديموغرافية وتخطيطية. وتبرز أهمية دراسة التجارب الدولية الناجحة في التعافي السكني باعتبارها مرجعاً عملياً يمكن الاستفادة منه في صياغة سياسات محلية تراعي خصوصية السياق الوطني وتستفيد من الخبرات المكتسبة.
الجدول رقم (2) يوضح تجارب الدول لمعالجة مشكلة الإسكان
الدولة | السياسة المتبعة | النتائج | الدروس لسوريا |
نيوزيلندا | إعادة تقسيم الأراضي للبناء الرأسي | زيادة العرض، انخفاض الأسعار | مراجعة التخطيط التنظيمي العمراني |
المكسيك | دعم الإيجار بدل التملك | استقرار سوق الإيجار | تبني ثقافة الإيجار المستدام |
كولورادو | إلغاء شرط مواقف السيارات | انخفاض تكاليف البناء 30% | تبسيط شروط البناء |
اليابان | تصنيف مرن للمناطق بين صناعي وزراعي وسكني | استقرار الأسعار رغم الكثافة | المرونة في تصميم المدن والنشاطات الاقتصادية |
يوضح الجدول رقم (2) نماذج متنوعة من دول تعاملت بطرق مبتكرة لمعالجة أزمة السكن، منها إعادة تقسيم الأراضي للبناء الرأسي في نيوزيلندا، ودعم الإيجار بدل التملك في المكسيك، وإلغاء شرط مواقف السيارات في كولورادو، إلى جانب المرونة في التصنيف الوظيفي للمناطق في اليابان. هذه السياسات ساهمت في تقليص تكاليف البناء، وتوسيع العرض السكني، وتحقيق استقرار في الأسواق العقارية، ما يتيح فرصة لسوريا لاستخلاص دروس حيوية تُسهم في إعادة بناء قطاع الإسكان بطريقة مستدامة وعادلة.
تُظهر هذه النماذج أن التحول نحو سياسات أكثر مرونة وابتكاراً يمكن أن يعزز الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ويقلل من الأعباء المالية على الحكومات والأفراد في مرحلة التعافي. ومن هنا، تأتي ضرورة مراجعة السياسات التخطيطية في سوريا والاستفادة من هذه الدروس لتلبية الطلب المتزايد على السكن وضمان حق السكن الكريم للعائدين والنازحين والمواطنين كافة.
سادساً- استراتيجية الحل الاقتصادي
تتطلب معالجة أزمة السكن في سوريا إعادة نظر شاملة في السياسات العمرانية، عبر تحديث المخططات التنظيمية واسعة بما يتناسب مع النمو السكاني، وتشجيع البناء الشاقولي لتوسيع القدرة الاستيعابية للمدن. كما أن تبني نماذج مرنة لتصنيف المناطق بين الاستخدامات الزراعية والصناعية والسكنية.
أصبح من الضروري التحول من ثقافة التملك العقاري إلى نموذج إيجار مستدام، من خلال إنشاء شركات إسكان وطنية تقدم وحدات سكنية بصيغ إيجار طويلة الأجل، تتيح الاستقرار للأسر والشباب العائدين، وتضبط السوق بعيداً عن الممارسات الاحتكارية. يتطلب ذلك تعديل التشريعات العقارية بما يضمن حقوق المستأجرين والمالكين، كما أثبتت تجربة المكسيك فاعليتها في هذا المجال.
مع تدمير أكثر من 470,000 مبنى، ينبغي اعتماد استراتيجيات إعادة إعمار تعتمد على تدوير الأنقاض لتوفير ما يصل إلى 20% من تكاليف البناء، بحسب UN-Habitat كما يُنصح بتطوير ضواحٍ ذكية متكاملة لتخفيف الضغط عن المدن المتضررة، وإطلاق برامج قروض ميسّرة لإعادة تأهيل المساكن بالتعاون مع جهات دولية.
لمواجهة ارتفاع تكاليف السكن والإيجار، يُقترح تأسيس هيئة وطنية للتمويل العقاري تتبنى نماذج تمويل مبتكرة على غرار التجربة الكندية والدنماركية، وتوفر قروضاً بدون فوائد للشباب. كما ينبغي تعزيز التعاون مع مستثمرين عرب لتطوير مشاريع إسكان ضخمة تضم عشرات الآلاف من الوحدات الاقتصادية.
البيئة التشريعية الحالية لا تواكب التحديات، ويتطلب الأمر تعديل القانون رقم 20 لعام 2015، وإنشاء هيئة وطنية لتنظيم عقود الإيجار، بما يضمن الشفافية ويحد من المضاربة العقارية. كما أن تفعيل المجالس المحلية وتوسيع المخططات التنظيمية، لا سيما في المناطق المحررة حديثاً، يساهم في معالجة الاختلالات البنيوية ومنع الاحتكار.
السكن في السياق السوري لا يقتصر على تأمين مأوى، بل يرتبط بالهوية والكرامة الاجتماعية. لهذا، يجب توفير وحدات سكنية مؤقتة للنازحين بأسلوب يراعي المبادئ الفقهية والاجتماعية، ودعم الشباب بمشاريع إسكان تعاوني، وتقديم قروض سكنية لإعادة تأهيل المنازل دون فوائد، بالتنسيق مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
الخاتمة
إن أزمة السكن في سوريا تمثل نقطة تحول حاسمة في مسار التعافي الاقتصادي والاجتماعي. ولعل أهم ما تكشفه هذه الأزمة هو ضرورة إعادة تعريف السكن كحق إنساني أساسي، لا كسلعة خاضعة للتضخم والمضاربة. إن تبني استراتيجية شاملة تجمع بين العدالة والابتكار والتنظيم يمهّد الطريق نحو بناء بيئة عمرانية مستدامة تُعيد للمواطن السوري شعوره بالانتماء والاستقرار.