ضوابط الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي
عميد كلية العلوم الإدارية و المالية - الجامعة الوطنية الخاصة
ضوابط الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي
د. عبير زيداني
يعتبر الدين الإسلامي من الأديان التي جاءت بتشريعات لضبط مختلف جوانب الحياة للأفراد، ومن ضمن الجوانب التي نظمها الإسلام “الاستهلاك على المستوى الفردي”، حيث وردت العديد من الآيات في القرآن الكريم والأحاديث النبوية التي شكلت ضابطاً للمستهلك المسلم، منها ما حرّم بعض السلع مثل (الخمر)، ومنها ما حض على تخفيض كمية الاستهلاك من باب المكروه، كما وردت العديد من التصرفات في السنة النبوية للرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة والتي شكلت ضوابط للمسلمين عند الاستهلاك، فالإسلام لم يعط الفرد حرية التصرف في الموارد الطبيعية بشكل مطلق بل وضع حدوداً للاستهلاك، و تراوحت هذه الضوابط بين التحريم والمكروه.
ويختلف موقف الإسلام عن موقف علم الاقتصاد الحديث من حيث النظرة للسلوك الاقتصادي للفرد، ويرجع هذا الاختلاف إلى كون الإسلام نظام قيمي بينما يعتبر علم الاقتصاد الحديث نظام وضعي.
كما يختلف النظام الاقتصادي الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي من حيث النظرة إلى عملية الاستهلاك، حيث يرتبط الاستهلاك بالمنفعة الفردية في الاقتصاد الوضعي بينما يراعي الاقتصاد الإسلامي مصلحة الفرد والجماعة عند الاستهلاك.
ويأتي هذا المقال لتسليط الضوء على محددات (ضوابط) الاستهلاك الفردي في الاقتصاد الإسلامي تبعاَ للشريعة الإسلامية.
مقارنة بين الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي والاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي
نجحت النظريات التقليدية في تفسير جانب مهم في موضوع الاستهلاك لدى الانسان؛ سواء كان مسلما أو غير مسلم، فهي تنطلق من بديهيات، فمثلا تنطلق النظرية “الكينزية” من بديهية أنً الاستهلاك تابع للدخل وأن الزيادة في الدخل يترتب عليها زيادة في الاستهلاك لكن بنسبة أقل، ومع كون هذا الاستنتاج تدعمه دراسات قياسية، إلا أنه ملاحظ في حياتنا اليومية، ولعل الكثير منا يدرك أن معظم الزيادة في الدخل تتجه نحو الادخار، والباقي للاستهلاك.
كذلك تشير نظرية “المحاكاة” إلى تأثير التقليد في الاستهلاك، وهو أمر أيضا تدعمه المشاهدة اليومية، فالكثير منا يعلم أنه يتأثر في نمط استهلاكه بالمحيط الذي يعيش فيه، بل إنه قد يضطر أحيانا لإنفاق ما هو أكثر من دخله من خلال الاقتراض للوصول إلى النمط الاستهلاكي للبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد، هذه البيئة قد تكون أصدقاء العمل أو الجيران أو العائلة أو غيرها من الأفراد المحيطين.
وتقر نظرية “دورة الحياة” أن الاستهلاك مرتبط بالثروة طيلة حياة الانسان، وترى أنه من الأمثل له أن تتوافق نهاية حياته مع نهاية ثروته، غير أن هذا لا ينبغي أن يكون تصرفاً سليماً في الاقتصاد الإسلامي، فترك الورثة عالة على المجتمع ليس أمراً مستحباً على الإطلاق، عن (سعد بن أبي وقاص ) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ” أن تترك ورثتك أغنياء خيراً لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس”، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية بأكثر من الثلث لذات السبب، وهنا يتجلى فرق ليس في موضوع الاستهلاك والانفاق فحسب، إنما الفرق في أسس الاقتصادين الوضعي والإسلامي، فمن أسس الاقتصاد الإسلامي أن المال ليس ملكا للإنسان بشكل مطلق، لذا منع الكثير من التصرفات والتي من بينها حرية تقسيم الإرث إلا فيما قل عن الثلث.
كذلك تختلف نظرة الإسلام إلى الإنفاق الاستهلاكي عن النظرة التقليدية، فالصدقة على سبيل المثال قد يُنظر إليها على أنها نوع من الانفاق الاستهلاكي، غير أنها من وجهة نظر المسلم نوع من أنواع الادخار، فهي ليست نقص في الثروة لقوله صلى الله عليه وسلم “ما نقصت صدقة من مال”، ولا هي إنفاق استهلاكي لقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) فهي بذلك أقرب ما تكون للاستثمار والنماء المستقبلي في حياة ما بعد الموت.
لم يتعرض الفقهاء القدامى للفظة (الاستهلاك) لأنها من حيث الإطلاق مصطلح معاصر مع أن مضامينها ومعلقاتها موجودة في الفكر الاقتصادي الإسلامي منذ نشأته وقد وضع بعض المعاصرين لها تعريفا مستقلا.
حيث عرف الاستهلاك من المنظور الإسلامي على أنه ” مجموع التصرُّفات التي تشكل سلة السلع والخدمات من الطيبات التي تُوجه للوفاء بالحاجات والرغبات المتعلقة بأفراد المجتمع والتي تتحدد طبيعتُها وأولوياتها بالاعتماد على القواعد والمبادئ الإسلامية وذلك لغرض التمتُّع والاستعانة بها على طاعة الله سبحانه وتعالى.”
وكذلك عُرف بأنه: “الإتلاف فيما ينفع، أو هو زوال المنافع التي وجد الشيء من أجل تحقيقها وإن بقيت عينة قائمة”
من خلال استعراض التعاريف السابقة للاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي يمكن القول أنّ “الاستهلاك” هو استخدام السلع والخدمات فيما يحقق المنفعة للفرد والمجتمع مع الالتزام
بضوابط الشريعة. فالاستهلاك المشروع الذي يدعو إليه الاقتصاد الإسلامي هو ذلك الاستهلاك الذي يكون “من حق المستهلك فعله، بشرط الحفاظ على مصلحته ومصلحة المجتمع” مع الابتعاد عن الاستهلاك الذي تكون الغاية منه جلب الأنظار.
من الملاحظ أنّ المستهلك المسلم لا يمكنه التصرف بما يملك إلّا ضمن مجموعة من الضوابط والحدود الشرعية والتي سنأتي على ذكرها ضمن هذا المقال.
أولاً: الضوابط الإسلامية للاستهلاك في مجال المباحات
يقصد بالضوابط الشرعية في مجال المباحات الضوابط التي يجب أن يكون الاستهلاك طبقا لها ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:
1.الانفاق في المباح شرعاً (الحلال):
حيث يشعر المسلم ان الانفاق وفقا لشرع الله عبادة وطاعة يثاب عليها، وهذا يدفعه لأن يكون سلوكه مطابقا لما أمر الله به في قوله عز وجل: “يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين”، وكذلك أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بتحري الحلال وتجنب الحرام والبعد عن كل ما فيه شبهة فقال: “إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه”.
ويحكم هذا الضابط القاعدة الشرعية: الأصل في المعاملات الحلال ما لم يتعارض مع نص من الكتاب والسنة.”
2.الانفاق في الطيبات:
لقد أمرنا سبحانه وتعالى أن يكون الانفاق في مجال الطيبات، ودليل ذلك من الكتاب قوله عز وجل: “قل من حرًم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق”، وتجنب كل ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية وهي (حفظ الدين النفس والعقل والعرض والمال). وبالتالي يجب على المستهلك المسلم أن ينفق ماله في شراء السلع والخدمات الطيبة التي تعود عليه وعلى المجتمع الإسلامي بالنفع، وأن يمتنع عن الانفاق في مجال الخبائث حتى لا يضيع ماله بدون منفعة معتبرة شرعاً لقوله تعالى: “ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث”.
3.الاعتدال في الإنفاق:
حدّد الإسلام حدوداَ لسلوك المستهلك المسلم، حيث يجب أن يكون الاستهلاك متوازناً بحيث يحقق الانسجام بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، وبين متعة الدنيا وثواب (أو عقاب) الآخرة. فالنهي عن الترف والإسراف لا يعني الدعوة إلى الشح إنما يعني الدعوة إلى الاعتدال فقط إذ أنّ خير الأمور الوسط لقوله تعالى” ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا”.
ثانياً: الضوابط الإسلامية للاستهلاك في مجال المحرمات
حدد الإسلام بعض المواد التي يحرم على المسلمين تناولها مثل الخمر ولحم الخنزير والأنعام الميتة أو المذبوحة بطريقة مخالفة لتعاليم الإسلام، ووردت العديد من الآيات والأحاديث في ذكر هذه المحرمات مثل قوله تعالى “حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب”.
وقوله تعالى” يا أيها الذين آمنو إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسُ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون”.
لذلك يحرم على المستهلك المسلم إنفاق أمواله في شراء أياَ من المحرمات التي ذكرت في القرآن الكريم.
حرّم الإسلام التقتير في الإنفاق لقوله تعالى: ” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما”، ويرى علماء الاقتصاد الإسلامي أنَّ التقتير يؤدي إلى الكساد الاقتصادي حيث ينكمش الطلب على السلع والخدمات مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاج وزيادة البطالة.
كما أنّ تحريم التقتير يحمي صاحبه من آفة الشح وحرمانه مما أحل الله له.
حرّم الشرع الإسلامي الإسراف كما حرّم التقتير لقوله تعالى” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما”
والعلة في تحريم الإسراف مضيعة المال بدون تحقيق منفعة معتبرة شرعاً، ومن الناحية الاقتصادية يؤدي الإسراف في الإنفاق إلى الاعتداء على حقوق الفقراء من المسلمين والاعتداء على حقوق الأجيال القادمة، ومن الوجهة الطبية الإسراف في الاستهلاك يؤدي إلى الإضرار بالجسد.
حسب الشرع الإسلامي يجب على المسلمين تجنب كافة نفقات تقليد المجتمعات الأخرى سواءً في طريقة مأكلهم أو ملبسهم أو احتفالاتهم التي تتنافى مع مبادئ الشريعة الإسلامية لقوله تعالى” ولا تقف ما ليس لك به علم إنً السمع والبصر والفؤاد كل ذلك كان عنه مسؤولا”.
لذلك يحرم على المستهلك المسلم إنفاق أمواله في أمور تتنافى مع العقيدة والثقافة الإسلامية.
من خلال استعراض محددات الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي نلاحظ تقييد الشرع الإسلامي للفرد المسلم في مجال الانفاق والاستهلاك؛ وهو تقييد يهدف إلى حماية الفرد والمجتمع والحفاظ على موارد المجتمع من الضياع، حيث أنً الإسلام لا يعتبر الفرد مالكاَ مطلقاً لأمواله حيث فيها جزء للفقراء (زكاة وصدقات) وهي من حق الأجيال اللاحقة (ورثة) وبالتالي فهو لا يملك حرية مطلقة في التصرف بممتلكاته.
وفقاَ للشرع الإسلامي يجب على المستهلك المسلم التحلي بالصفات الآتية:
وبالطبع تختلف درجة التزام الأفراد المسلمين بالضوابط الإسلامية للاستهلاك باختلاف درجة الالتزام الديني للفرد، حيث نلاحظ في مجتمعاتنا الإسلامية قيام بعض المسلمين بشراء منتجات محرمة، وقيام البعض بالتبذير في الاستهلاك أو التقتير أو إنفاق الأموال على بعض الأنشطة المنافية للشريعة الإسلامية.
المراجع باللغة العربية
المراجع باللغة الانكليزية